فى رواية «البؤساء» لفيكتور هوجو، قرع «جان فالجان» باب القسيس طالبا شيئا يأكله، وقال له: إنى سجين سابق وتحت المراقبة، ولا أجد مكانا آوى إليه، ولا طعاما آكله، فاستضافه القسيس فسأله «فالجان» ألا تخاف أن أقتلك!، فرد عليه: ألا تخاف أنت أن أقتلك؟!، نحن نحتاج إلى الثقة فى بعضنا البعض، ولم يكن (فالجان) محلا لهذه الثقة وسرق الفضيات، وأعادته الشرطة مع المسروقات للقسيس، وفى مواجهته أنكر أن (فالجان) قد سرق شيئا، لأنه من أعطاه الفضيات، بل وبخه لأنه نسى بعضا منها، وأضافها للمسروقات، وانصرفت الشرطة، وسأله (فالجان) لماذا فعلت هذا؟ قال القسيس لأنى أعرفك وأردت أن أحرر روحك من الخوف والأحقاد، وتحرر (فالجان)، وأصبح رجلا خيرا يساعد المذنبين حتى تتحرر أرواحهم! اخترت الاعتماد على هذه الرواية العالمية، قبل الخوض فى الظاهرة العدوانية الدنيئة، التى ينتفض ضدها العالم الآن، وهى ظاهرة «التحرش الجنسي»، فهو عدوان من أجل العدوان، لا مكسب ولا هدف من ورائه، وهذا الهوس الجنسى بالتحرش بداية للجريمة البشعة، الاغتصاب، أبو الدناءة وأمها، مع أن كل عدوان دنيء، إلا أن العدوان على الضعفاء هو أشدها دناءة، فالضحايا فى الغالب هم الحيطة المايلة فى المجتمع من النساء والأطفال، والاستقواء على الضعفاء جريمة مخزية لكل الضمائر، وعندما ترتبط بالجنس فهى تزلزل ظاهر الإنسان وباطنه فقد هوت بنجوم فى هوليوود إلى أسفل سافلين، فى اغتيال معنوى لاحياة بعده، لتزداد أرواحهم المعذبة عذابا على عذاب! رغم أن الحوادث المخزية عن جرائم التحرش تباغتنا فى كل أنحاء العالم المتقدم والمتخلف، ويرتكبها الغنى والفقير، إلا أن الصادم فى مصر تصدرها قائمة الدول التى ينتشر فيها التحرش خاصة أن من يشاركها فى الصدارة دول معظمها إسلامية، وتشتهر بالتشدد الدينى كأفغانستان وباكستان.. مما يوضح أن هذه الظاهرة لا ترتبط بعامل تربوى واحد، ولكنها شبكة من العوامل أفرزت هذا الداء، ليصبح خصلة شعبية منتشرة، بالفعل أو بالصمت، بسبب العامل الديمو جرافى وكثافة السكان فى زحام على زحام، فالناس لا تتنفس من تزاحمها، فأصبحت كالبكتيريا اللاهوائية، ويزيد من كبتها الخلل فى البيئة الاجتماعية فى الأسرة والمؤسسات التربوية الناتج من الضغط الاقتصادى على كل الأطراف ذلك بالإضافة إلى اتجاهات نفسية عقلية فى المجتمع من الإرث التاريخى للاحتلال التركى فى النظرة المتدنية للمهن، التى تدر عائدا اقتصاديا يفوق مهنا أخرى تحظى بالتقدير، ولا تجد المقابل الاقتصادي، الذى يحفظ كرامتها، فتشتعل الأحقاد بين من لا يملك التقدير وبين من لا يملك المال، فعدم التنبه للإصلاح الاجتماعي، ودراسة العملية التربوية بكل عواملها، وتعديل فلسفة المجتمع، سيفرز بالضرورة إنسانا مقهورا مهزوما، يفرغ فراغة النفسى فى الهوس الجنسى كحيلة دفاعية، بالنظرات الوقحة والألفاظ الخادشة للحياء، والتعرى البذيء، أو التجرؤ باللمس أو الاغتصاب.. يا للعذاب!
الشعب المتحرش ليس إلا شعبا مقهورا، لا تجدى المواعظ فى انتشاله من الضغط النفسي، ليتنفس الفضيلة والأدب، بل لقد ابتلينا بسفهاء مخبولين اختطفوا الدين، ليزيدوا الطين بلة، فيبرروا مرض (البيدوفيليا) النفسى باشتهاء الأطفال، دينيا!!! فليس هناك خلل أخلاقى وتربوى واجتماعى يشرعن التحرش أحط من هذا، فلا المواعظ ولا العقوبات الرادعة، تردع مساكين، غير قادرين على التنفس، ينفثون عن أنفسهم، كالبكتيريا اللاهوائية، فى دائرة من الاعتداء المولد لمقهورين جدد، يقهرون آخرين، فى دائرة التعاسة الحزينة.. ياحزني!! تحرير أرواح هؤلاء المتحرشين التعساء كما هو جلى يحتاج مجهودا وزمنا، حتى يتم علاج الظاهرة من جذورها، ولكن بيدنا جميعا أن نكون هذا القسيس الطيب فى (البؤساء)، ليس بالتعاطف مع المتحرشين بل بفهمهم، بداية باحترام بعضنا البعض، ونبذ العنصرية اللامنطقية فكلنا فى الهم سواء، فلا تعايرنى ولا أعايرك!، وأن يجعل كل عاقل من نفسه معلما لدائرته الاجتماعية، ويمد يد العون لمن يحتاجها، حتى ولو بكلمة طيبة، قد تنقذ روحا معذبة من تحرش حولها إلى متحرش، أما وسائل الإعلام والاتصال فكفاها إثارة وتثويرا، فالمجتمع منهك من الحقد والضغينة، فأهم الموضوعات فى نظرى وأراها البداية الثورية فى الإصلاح الاجتماعي، هى نشر الحس الجمالي، لضبط العملية الإدراكية فى القشرة الدماغية لدى عموم الشعب، فلم تصبح ظاهرة التحرش مرعبة إلا بعدما تدهورت الفلسفة والفنون بتدهور الأحوال الاجتماعية، وأصبح الجمال عورة، وبدلا من احترامه والحفاظ عليه اغتصبوه!، فماذا لو تنفس المتحرشون هواء نقيا فى حديقة جميلة بسيطة، أليس تنفيثا أكثر احتراما للنفس والغير؟! فيا أيها المتحرشون التعساء تنفسوا، لتتحرر أرواحكم المكبلة بالآثام فلا صمت يحميكم بعد الآن!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق